من أعلام المدرسة المالكية بتوات العالم المجدد عبد الرحمن بن ابراهيم الجنتوري الجراري التواتي (ت : 1
- د. عبد الرحمن بعثمان ـ الجامعة الافريقية ـ أدرار
- 17 nov. 2017
- 15 min de lecture

مقدمة
تقع منطقة توات في الجنوب الغربي للجزائر، وتمثل حاليا الحدود الإدارية لولاية أدرار، تتكون المنطقة من ثلاثة مناطق فرعية هي تنجورارين[1]، توات، وتيدكلت[2] ، وتتوضع هذه المناطق بشكل هلالي على سفح هضبة تدمايت، وتتساكن في توات مزيج من قبائل عربية وبربرية وزنجية بتجمعات تسمى القصور ويعتاشون على الزارعة الواحية والتجارة، ولقد واكب هذا الغنى والتنوع الذي عرفته واحات توات نهضة فكرية كبيرة حيث ظهرت على فترة من استقرار العناصر العربية مراكز علمية زاهرة أسهمت بالنهوض الفكري بدء من القرن التاسع للهجرة، حيث أثمر ذلك بروز العديد من العلماء العالمين الذي أغنوا المكتبة المحلية بمؤلفات رصدت مدى المستوى العلمي الذي عرقته المنطقة مابين القرنين 09-13 للهجرة، ومنهم اللعالم الكبير الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن ابراهيم الجنتوري هذه القامة العلمية التواتية التي سيتناول هذا البحث عصره وحياته وآثاره
الحركة العلمية في توات خلال القرن 12هـ
عرفت توات خلال القرن الثاني عشر الهجري ( 18 م ) نهضة علمية كانت إمتداداً لنهضة علمية واسعة عرفتها الحواضر العلمية المنتشرة في
أرجاء شمال أفريقيا، كالقاهرة وفاس ومكناس مراكش وغيرها والتي أنجبت علماء كانوا رواد إصلاح وناشري علم ومعرفة، وقد كان لهذه الحواضر الوقع المؤثر على توات بحكم الجغرافيا والتاريخ بدأت بوادره في الظهور منذ القرون (09-10-11هـ) وتوجه تأسيس مراكز علمية كان لها الأثر البالغ في بعث الحركة الثقافية والعلمية في عموم البلاد التواتية
قبل الحديث عن الحركة العلمية والثقافية في توات يجدر بنا أن نسلط بعض الضوء على جذور هذه الحركة، لأن الحاصل لم يكن ليخرج من عدم، بل هو تراكم لأعمال جليلة وعوامل عديدة، ساهمت في تشكيل بناءٍ تبلور كحركة علمية ونشاط فكري ميز القطر التواتي.
إن موقع منطقة توات، من حيث هو معبر حتمي للقوافل التجارية بين المدن الشمالية وجنوب الصحراء أضفى على المنطقة حركية اقتصادية نشطة ساهمت إلى حد كبير في اجتذاب العديد من الجماعات البشرية التي آثرت الإستقرار في الإقليم لما يوفره من أمن ورغد عيش[3] وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون الذي وصف توات أنها بلد مستبحر في العمران وأنها الممر الحتمي الذي تسلكه القوافل إلى بلاد السودان "مالي " [4]
وتشرف توات أيضا، على طريق آخر لا يقل أهمية عن الطريق الأول، وهو طريق تسلكه رِكاب الحاج القادم من سجلماسة وشنقيط والمتوجه نحو الحجاز عبر صحراء ليبيا ومصر، والذي مر به العياشي، صاحب ماء الموائد[5]، ولاشك أن لركاب الحاج أهمية بالغة في تنشيط الحركة العلمية في المحطات والمراكز التي تتوقف عندها، إذ عادة ما يحمل الركب علماء أجِلاء يديرون ـ خلال فترات الراحة ـ بعض الدروس يتهافت طلبة العلم في توات إلى حضورها للاستزادة من علومهم وطلب الإجازة منهم
ولعل أقدم مركز الاستقرار في توات كان مدينة تمنطيط، التي تقع في نقطة تقاطع الطريقين السابقين، حيث عرفت خلال الفترة إنتعاشاً اقتصادياً[6] وعلميًا كبيراً تحدث عنه صاحب القول البسيط في أخبار تمنطيط بقوله: إعلم أن تمنطيط اسم لمدينة في إقليم توات إجتمع فيها العلم والولاية والعمارة والديانة ونصبت بها الأسواق والبضائع، وكان لا يستغني عنها غني و لا زاهد " [7]. فقد آثر العديد الكثير من العلماء الهجرة إليها الإستقرار بها، حيث حل بها أبو يحي المنياري المتوفى سنة 840هـ، والذي استقر بتمنطيط سنة 815هـ /1412م[8] وأسس زاوية عكف من خلالها على التدريس ونشر العلم والمعرفة بينهم، ومن هؤلاء العلماء أيضا نجد الشيخ يحي التدلسي المتوفى سنة 877هـ/1414م[9] الذي حل بتمنطيط سنة 845هـ /1441م [10] فتصدّر لتحفيظ القرآن ومبادئ اللغة العربية وتدريس الفقه المالكي معتمداً على كبريات مصنفات المذهب كالمدونة، ومختصر ابن الحاجب والموطأ وغيرها، فأثرى بذلك الساحة العلمية في عموم البلاد التواتية، فاجمع أهل تمنطيط على توليته قضاء الجماعة للفصل في الخصومات التي تحصل بينهم، وقام على ذلك حتى وافته المنية بها سنة 877هـ/1441م[11]
ومن العلماء الذين دخلوا توات في نهاية القرن 09هـ الشيخ عبد الله بن أبي بكر العصنوني الذي استقر أولا ببني تامرت[12] سنة 862هـ /1458م [13] ثم انتقل إلى تمنطيط سنة 863هـ /1459م وتصدر الشيخ للتدريس وتولى خِطة القضاء بعد وفاة التدلسي سنة 877هـ/ 1472م[14]، ثم خلفه في ذلك ابن أخيه سالم العصنوني الذي ذاع صيته بعد نازلة اليهود التي تناظر فيها مع الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي الذي دخل توات واستقر بتمنطيط سنة 882هـ /1477م، وأخذ على علمائها وأعجب بمستواهم العلمي حيث قال"...ودخلنا توات فوجدناها ديار علم ومقر أكابر وأعلام فانتفعت بهم وانتفعوا بنا "[15]، ولقد أضفى الشيخ المغيلي نفسًا جديدًا للحركة العلمية لاسيما السجال العلمي في القضايا المشكلة خاصة فيما يتعلق بقضية وجوب محاربة يهود تمنطيط
من بين أهم العلماء الذين استقطبتهم توات الشيخ ميمون بن عمرو بن محمد بن عمر البازي، مؤسس العائلة البكرية بتمنطيط، التي سوف يكون لها الأثر البالغ في الحركة العلمية في عُموم البلاد التواتية خلال القرنين 10-11 الهجريين، حيث تصدر علماؤها التدريس وتخرج على أيديهم العديد من العلماء
لقد كان للزاوية البكرية الاثر البالغ في الحياة العلمية في توات، حيث تخرج منها العديد من العلماء أشرفوا على تأسيس زواية عامرة كزاوية تنلان والزاوية الرقادي و زاجلو وغيرها.. والتي أصبحت منارات علمية يقصدها الطلاب من توات وخارجها، ومن أهم الطلبة الذين قصدوا الزاوية البكرية من داخل توات كان الشيخ سيدي أحمد بن يوسف التنلاني[16] مؤسس زاوية تنلان سنة 1058 هـ والتي أصبحت خلال القرن الـ 12 للهجرة مقصد طلبة العلم بفضل صيت باعثها الشيخ عمر بن عبد القادر التنلاني[17]، الذي حل بتنلان بعد عودته فاس التي قضى بها 13 سنة دارسا ثم مدرسا، ومن أوائل الطلبة التواتيين الذين درسوا لدى الشيخ عمر التنلاني كان العلامة الجليل المجدد عبد الرحمن بن إبراهيم الجنتوري الذي شغل مالكية توات بأرائه التجديدية في القرن الـ 12 للهجرة
المولد والنشأة
هو الشيخ أبي زيد عبد الرحمن بن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن علي الانصالحي ثم الجنتوري الجراري الانصاري[18] ، ولد بقرية جنتور بقورارة بتوات، يذكر تلميذه عبد الرحمن التنلاني في فهرسته أن أصل سلفه من قرية تيطاف[19] بتوات ثم انتقلوا الى عين صالح بتديكلت وانتقل جده عبد الرحمن الى جنتور واستقر بها، ولا تذكر أي من المصادر المبسوطة تاريخا محددا لميلاده إلا أننا نجد في ثنايا نوازله التي جمعها الشيخ محمد بن عبد العزيز المسعدي الجراري أنه توفي عن نيف وخمسين سنة .[20] كان الجنتوري، بحسب ما هو مبسوط في المصادر المخطوطة، عالما عاملا متواضعا، مفتشا، محققا، مناظرا، دراكا، جدليا، مشاركا، في فنون العلوم لا يماريه أحد إلا لجمه ، ضاربا في المعقول والمنقول ، قوالا للحق لا تأخذه في الله لومة لائم زاهدا بما في أيدي الناس مكتفيا بما يؤمن قوته وقوت عياله، منشغلا بما يعنيه ملازما للقراءة والإقراء والتقييد [21
تعليــــــــمه وشيوخه
تلقى الشيخ عبد الرحمن الجنتوري مبادئ علومه على يد والده الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الانصالحي[22] - [23]، حيث حفظ القرءان الكريم في سن مبكرة وانبرى لدراسة مذهب الإمام مالك حيث درس مختصر خليل، كما أخذ على ابن عمه المشارك عبد العلي بن أحمد الانصالحي ، حيث درس على يديه مختصر خليل ورسالة بن أبي زيد القيرواني والتلمسانية والفرائض وبعض ألفية بن مالك والقلصادي[24].
حاول الشيخ الجنتوري السفر في طلب العلم إلى الحضرة الفاسية فرده أهله[25]، ولما بلغه خبر عودة الشيخ عمر بن عبد القادر التنلاني الى توات قادما من فاس رحل إليه وأقام عنده نحو سنة ونصف أحد عليه خلالها دروسا في مختصر خليل وجمع الجوامع والسلم في المنطق وتلخيص المفتاح ولامية الأفعال كما أخذ دروسا في صحيح البخاري ورسالة بن أبي زيد القيرواني وألفية بن مالك ثم رحل إلى جنتور وأقام مدة ثم رجع الى تنلان فأقام ستة أشهر فدرس على الشيخ مختصر السنوسي وعقيدته الكبرى. [26
تلامذته
لم يكن الجنتوري ينظر بعين الرضا للمستوى العلمي لطلبة منطقة تنجورارين من بلاد توات الكبرى (قورارة)، حيث كان يشتكي قلة استيعابهم لغلبة العجمة عليهم، وكان يفضل عليهم طلبة توات لجودة قرائحهم وقرب لسانهم للعربية وقوة استيعابهم، وبلغ به الأمر إلى درجة رغبته في الرحيل إلى المشرق لعله يجد من يأخذ عنه[27] ومن أهم تلامذة الجنتوري العالم الجليل عبد الرحمن بن عمر النتلاني، والشيخ محمد بن عبد الجبار بن أحمد التنكرافي والشيخ محمد عبد العلي بن عبد الحكم، ومحمد بن عبد العزيز المسعدي الجراري.[28
مؤلفـــــاته ألف الشيخ عبد الرحمن الجنتوري العديد من المؤلفات نذكر منها
- نظم معونة الغريم في بعض أحكام قضاء الدَّيْن: نظم الجنتوري قصيدة في الأحكام الفقهية الخاصة بقضاء الدَّين تتكون من مائتين وسبعة ( 207 ) أبيات مبوبة على فصول وأبواب يقول في مطلعها:
الحمدُ لله وسيّدُ الأنـــامْ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلامْ
وآلهِ وصحبِه الأعـــــــــلامِ ما الحَمدُ في المبدإِ والختـــــــــامِ
وبعدُ فالقصدُ بهذا ذكرُ بعض أمورِ الدّين فيها عسرُ
لمثلِنا تبصرةٌ ونستعيــــــــــنْ اللهَ في كل الأمور تستهيــــــنْ
سمّيتُهُ معونةَ الغَريـــــــــــــــــــــمِ ببعضِ أحكامِ قضا الملّيــــــــــمِ
إلى أن يقول
تمَّ بحمدِ اللهِ ثمَّتَ علــــــــــــــــــــــــى الرحمةِ المهداةِ خيرِ مَنْ عَـــلا
أزكى الصّلاةِ والسلامِ وعَلى الآلِ والأصحابِ ثُم مَن تَلا
- شرح على معونة الغريم : ، ذكره تلميذه عبد الرحمن بن عمرفي فهرسته فقال " ومنها شرحه على معونة الغريم ، لم أقف عليه ثمّ وقفت عليه [29
- حاشية مستقلة على الشيخ عبد الباقي الزرقاني : وردت الإشارة إليها في معظم المصادر المترجِمة للشيخ الجنتوري ، وهي عبارة عن تقاييد وطرر على شرح الزرقاني لمختصر خليل ، أنكر فيها عليه خرق الإجماع ، ابتدأها من أول المختصر شرحًا ، وأسند المسائل لأصولها، ومع ذلك لم تكمل ولم تخرج من مسودّتها [30]
وقد عرض الشيخ الجنتوري تلك الحاشية على الشيخ العالم اللغوي محمد بن أبّ المزمّري للتقريظ [31]، فقال
بُشرى فقد صارَ سَيفُ الحقّ مصقولا
وعادَ طعمُ مَذاقِ العلمِ مَعسولا
إنّ العلومَ ابنَ ابراهيم أُعْطِيهــــــــا
عفواً فحازَ بها فخراً وتفضيــــــــــــــــــــــــلا
العالِمُ الفردُ لا حِبرٌ يُناظِــــــــــــــــــــــــــــــــــــره
إنْ خاضَ في العلم معقولا ومنقـــولا
أكرِمْ به عَلَماً به تواتُ حَــــــــــــــــــوَتْ
على القرى كلِّها فخرا وتبجيــــــــــــــــــلا
أَبدى جواهرَ من فنّ الفروع بهــــــــا
قد جمّلَ العقلَ من ذا الفنّ تجميــــلا
من كان للهِ كان اللهُ مُظفـــــــــــــــــــــــــــــــرَه
بما يحاول تسهيلا وتحصيــــــــــــــــــــــــــــــــــلا
لكنْ سألتُ فقالوا أمرُه عَجَـــــــــــــــبٌ
إن الفتى نالَ للتأليف تأهيـــــــــــــــــــــــــلا
ما فيه عيب سِوى ما كان صَيّــــــــره
مِن قبلُ عن خطة التأليف مشغولا
فنالَني عجبٌ مِن ذاكَ أَذْهَلـــــــــــــــــــــني
حتى نطقتُ ببيتٍ فيه تمثيــــــــــــــــــــــــــلا
إنّي لأعجبُ مِن سيفٍ جلٍ ماضٍ
وليس يُرى في الخَطب مسلــــــــــــــولا
- تأليف في التصوف في أحوال أرباب القلوب : وردت الإشارة إليه من قِبل تلميذه محمد بن عبد العزيز المسعدي في مخطوط النوازل [32] .
- شرح على مختصر خليل : ابتدأه من الخطبة إلى النكاح في توجيه كلام المتن [33] .
- رجز في علم الكلام في مسألة الكون : قال عنه ضيف الله "لم يسبقه أحد في ذلك فيما نعلم ، وله عليه شرح في نحو أربعة وستين بالقالب الرباعي ، بيّض له محمد بن أب المزمري من المسودّة وأصلحَ فيه مواضع بموافقته [34] .
- منظومتان في علم الكلام رائية ولامية : ضمّنهما محصّل كلام السنوسي في عقائده وشروحها ، وهما في غاية الإفادة ، يقول عنهما التنلاني " قرأتُهما معاً عليه ، إلاّ أنّه لم يكن يتقن فنّ العروض والقوافي ، فلذلك يوجد فيهما من عيوبهما كثير ، وقد أذِنَ لي في إصلاح ما ظهر لي من ذلك فيهما ، فأصلحتُ ما أمكنَنِي ، وله عليهما شرحان في غاية الإفادة ، أكثرَ فيهما النّقل من كلام الإمام المحقّق أبي علي سيدي الحسن بن مسعود اليوسي في حاشيته على الكبرى ، وهما مما يُستدلّ به على مكانته في ذلك الفن " [35].
36- شرح مستقلّ على المختصر إلى أركان الطلاق : وقف عليه العلامة محمد بن أبّ المزمّري ، حسبما ذكر ابنه ضيف الله
- قصيدة في الفرائض : ذكره تلميذه عبد الرحمن بن عمر بأنّه لم يقف عليها[37
حياته العلمية وآراؤه الفقهية
تكوينه العلمي
يعد عبد الرحمن الجنتوري من أوئل الطلبة الذين درسوا لدى الشيخ عمر بن عبد القادر في تنلان، وتميز بنبوغه في الفقه حتى أنه فاق شيخه عمر بن عبد القادر، وقد شهد بذلك بعض تلامذته على رأسهم تلميذه عبد الرحمن بن عمر التنلاني الذي أورد في فهرسته أنه استحسن طريقته في التدريس، وقال أنه استفاد منه أضعاف ما استفاد من الشيخ عمر بن عبد القادر التنلاني قال عبد الرحمن التنلاني في فهرسته : "وكان ـ رحمه الله ـ أعلم من لقيته بالأصول والقواعد الفقهية، فاق في ذلك شيخه أبا حفص المذكور، فضلاً عن غيره، عارفاً باستخراج الفروع والنوازل منها وبردها إليها، وقد قال لي يوما وددت أني وجدت طالباً حاذقاً أقرئه مختصر الشيخ خليل على أن أسند كل مسألة منه إلى أصلها، وانتهت إليه الرياسة في الفتوى والتدريس في صقعي توات وتجورا رين بعد وفاة شيخنا أبي حفص، وكان إذا رُفع إليه سؤال في نازلة يشحن جوابه بالمعقول ويُطيل فيه النّفس، وإذا وقف عليه من فقهاء العصر من لا إلمام له بالقواعد أنكره استطالة ظنا منه أنه لا طائل تحته وذلك لجهله، ومن جهل شيئا عاداه، وقلّ ما جاءه سؤال في كاغد إلا و أملاه بجوابه بديهة ـ رحمه الله ـ وكانت بينه وبين شيخنا أبي حفص مراجعات في مسائل لم يراجع أحدهما فيها بصاحبه حتى توفي أبو حفص، وطالت بيني وبينه المراجعة في بعضها بعده، وذلك أني كنت استصوبت رأي أبا حفص فيها فلم يزل يراجعني حتى رجعت إلى رأيه، ووقع لي ذلك معه في مسائل وتلك عادته ـ رحمه الله ـ مع كل من خالفه، لا يزال يراجعه بالمعقول والمنقول حتى يسلم له صاحبه أو يرى منه عناد.[38
وجاء في رحلة ضيف الله بن محمد بن أب على لسان أبيه، أن الجنتوري بلغ في مستواه العلمي مبلغًا فاق به شيخه عمر بن عبد القادر حتى أنه لو أدركه لقرأ على يديه[39]
وقد تصدر الشيخ الجنتوري التدريس في تينجورارين التي استقر بها الشيخ محمد بن أب المزمري ، حيث كانا يقضيان معا أوقاتًا طويلة في إصلاح المقطعاته الشعرية ومراجعة النوازل التي كانت ترد له[40] وأورد التنلاني في ترجمته للشيخ الجنتوري أن الشيخ لما زار الحرمين في رحلة حجه لم يحد من يجاري الشيخ عمر بن عبد القادر التنلاني في علمه الا عالما في الحديث.[41]
آراؤه التجديدية في المذهب المالكي
وبرغم أن الجنتوري تلقى تكوينًا محليًا، لعدم التحاقه بأي من الحواضر العلمية خارج توات ـ إلا ما كان له من رحلة إلى الحج ـ غير أنه مثل ظاهرة فقهية فريدة في منطقة توات توات، حيث نستشف مما جاء عنه في فهرسة التنلاني أنه كان انتبه إلى أزمة الجمود الذي كان يعاني منه الفقه المالكي بفعل اكتفاء علمائه بالنقول والاختصارات والاهتمام بالفروع وترك الأصول، حيث دعا إلى ضرورة العودة إلى الكتاب والسنة باعتبارهما أصل كل الأحكام بدل الدوران في الفروع وأنتقد بشدة علماء عصره الذين يولون الاهتمام الفروع وهذا ما يجعلهم حسبه لا يستقرون على رأي وتتميز أحكامهم بالاضطراب حيث أنهم يفتون في كل يوم بقول لأنهم لا يجتهدون في ضبط المسائل ودعا إلى ضرورة التفقه في أحكام الآيات القرآنية والأحاديث لأنه ما من فرع إلا وله دليل من الكتاب والسنة [42]
ويظهر تميز الجنتوري جليا في الفتوى التي أصدرها وجمعت فيما سمي بنوازل الجنتوري والتي تعد حسب ـ جامعها إن تمكن من جمعها كاملة لفاقت نوازل المعيار للونشريسي ـ وقد أبرز فيها الجنتوري قوة فائقة في التحقيق والضبط والتدليل كان يشحن جوابه بالمعقول والمنقول ويطيل النفس في ذلك، أضف الى ذلك تلك السرعة في استحضار الأدلة والنقول من أمهات كتب المالكية كمحمد الهواري ابن عبد السلام التونسي، وابن عرفة في كتابه الحدود وخليل في مختصره وابن غازي والحطاب في مواهب الجليل وكتب علي والاجهوري والتتائي لقائله بأمانة [43 وكتاب التبصرة لابن فرحون، بل كان يضرب النقول بعضها ببعض ويميز بين السقيم وينسب كل قولموقفه من قضاة قورارة
وكان الجنتوري شديد النكير على قضاة توات فكان يتهمهم بالجور والجهل ومخالفة الشريعة في كثير من أحكامهم ومن جملة ما انتقد به قضاة عصره أنهم يقبلون شهادة المدعي مكتوبة على ورق ولو كان حيا حاضرا ولا يكلفون أنفسهم الإتيان به للتحقق من خطه وهذا خلاف ما يجري عليه إجماع الأمة ، وهم برغم ذلك ـ حسبه ـ لا يقبلون النقد ويشنعون على منتقدهم. كما أخذ عليهم حكمهم بييع العقار المرهون بالدين قبل الاعذار إلى المدين، كما أنهم يحكمون في المواريث قبل إثبات الموت وعدة الوراثة وحكمهم على الغائب من غير تسمية الشهود وتساهلهم في تحليف القائم يمين القضاء.[44]
كما أنتقد الجنتوري ما درج عليه قضاة توات في أنهم يأخذون أجرة معتبرة لقاء إخراج نسخة الحكم وقال أن هذا لا أصل له في المذهب بل يعد من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، وتعجيز للخصم، رغم أنه يورد أنه للقاضي أن يؤجر على قضائه ولكن بمقدار التعب [45]
ومن جملة الانتقادات التي وجهها للقضاة، ما أجاب عنه في نازلة تتعلق بالمبالغ المالية التي درج قضاة توات على أخذها من الخصمين قبل الحكم وقال أنه يلزم على القاضي أن يأخذ أتعابه المعقولة من المحكوم له كما اثأر أيضا قضية احتمال وجود وجهين للحكم وقال أن بعض القضاة في توات كانوا يحكمون لمن يدفع أكثر واستدل بقول الشافعي : من ولي القضاء ولم يفتقر فهو سارق واستشهد بالأبيات[46]
أتقالله ياخلـيلي رويـــــدا
واجـعل العلـم أخراك بـــيدا
ولاتكن كمعـاشر الفقــهـاء
جعلـوا العلم للدرهمين صيــدا
أخـذوه فصيــروه معاشـــا
ثم كــــادوا البــرية كيـدا
فلهذا صـب البــلاء عليــنا
مستحقـا ومادت الأرض ميــدا
ويحتمل تلميذه عبد الرحمن التنلاني أن سبب وفاة الشيخ الجنتوري كان بدسيسة من هؤلاء القضاة الذي أمعن في انتقادهم[47]
وفاتـــــه: توفي الشيخ عبد الرحمن الجنتوري في الثالث من جمادى الأولى سنة 1160هـ وهي السنة التي توفي فيها الأديب ابن أُب و الفقيه محمد الصوفي من علماء قورارة، وقد رثاهم ضيف الله بن أب بقوله [48]
تُوفي الشَيْخ ُفِيْهَا عنْ قَريـــبِ
بِأَهْوَنِ مِنْ جُمَادَى مِنْ غَـيرِ لبُس ِ
بيومِ عَاشِر ِمنــْهُ بعِـــامِ مِنْ
السِتينَ فيِ التَحْقِيــــــــْقِ حَــــــــــــــدْسِ
وَفي ذَا العَامِ قَدْ غَـارتْ عُيون
كَصُــــــــــــوفي وجَنتْوري ونحــــــــــَــــسِ
الخاتمة
عاش الجنتوري منافحا عن الحق لا يخاف في الله لومة لائم فحق له قامة علمية فارهة في سماء المشهد الفقهي في منطقة توات خلال القرن 12هـ، حيث إنه ورغم تكوينه المحلي الصرف إلا أن سعت اطلاعه جعلته يتفرد عن معاصريه من الفقهاء وقضاة توات فكان أول من انتبه إلى أزمة الجمود التي يعنيها المذهب المالكي وراح يدعو إلى التجديد بالعودة لأصول الإحكام بدل الاكتفاء بالفروع، كما أنه كان دائم الإشارة إلى الاخطاء المعضلة التي يقع فيها قصاة توات خاصة فيما يتعلق بالشهادة وبعض الأحكام القضائية الجائرة كالمفاضلة بين المتخاصمين وغيرها وبذلك مثل الجنتوري ما يشبه محكمة الاستئناف إذ كانت ترد عليه الاقضية من عموم توات ويبدي الرأي فيها معتمدا على الادلة الفقهية لذا فغننا نلمس في مؤلفاته تلك القوة في الطرح والانتقاد اللاذع لمخترقي قواعد المذهب فقهاء كانوا أم قضاة فرحم الله شيخنا الجنتوري وجزاه عنا الف خير.
المصادر والمراجع
المخطوطات
التمنطيطي، محمد بن عبد الكريم، درة الأقلام في أخبار المغرب بعد الإسلام ، خزانة مولاي سليمان بن علي ، أدغاغ ـ أدرار.
المهداوي، محمد بن عبد القادر، الدرة الفاخرة في ذكر المشايخ التواتية، خزانة مولاي سليمان بن علي، أدغاغ ، أدرار.
البكري بن عبد الكريم بن البكري ، إعلام الإخوان بأخبار بعض السادة الأعيان ، مخطوط بالخزانة البكرية ، تمنطيط ، أدرار
ابن أب، ضيف الله، الرحلة الى قبر الوالد، خزانة سيدي أحمد ديدي، تمنطيط، أدرار، الجزائر.
الجنتوري، عبد الرحمن بن ابراهيم، نوازله، خزانة بن عبد الكبير، المطارفة ـ أدرار.
الجنتوري، عبدالرحمن بن ابراهيم، قصيدة معونة الغريم، خزانة الشيخ الحاج محمد باي بلعالم، أولف ـ أدرار.
المصادر المطبوعة
ابن باباحيدة، عبدالرحيم، القول البسيط في أخبار تمنطيط، تحقيق: فرج محمود فرج، ديوان المطبوعات الجامعية 1977.
ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر، تحقيق: خليل شحادة، مراجعة سهيل زكار ، بيروت : دار الفكر2001،.
العياشي أبو سالم ، الرحلة العياشية ، ماء الموائد ، فاس ، طبعة حجرية .
المراجع
بكري، عبد الحميد، النبذة في تاريخ توات وأعلامها، دار الطباعة العصرية ، الجزائر ، الطبعة الثانية، 2010.
بلعالم ، الرحلة العلية الى منطقة توات ومافيها من المخطوطات ومايرتيط بها من العادت، دار هومة للنشر، 2005.
حاج أحمد، الصديق، التاريخ الثقافي لاقليم توات، دار الحبر، الجزائر، الطبعة الثانية، 2011.
سيدي عمر،عبد العزيز المهداوي، قطف الزهرات من أخبار علماء توات، دار هومة ، الجزائر، 2002.
الرسائل الجامعية
- الحمدي ، أحمد ، محمد بن عبد الكريم المغيلي ،رائد الحركة الفكرية في توات ، عصره وآثاره، رسالة ماجستير ، المعهد الوطني للحضارة الاسلامية، وهران ،1999-2000م ، ص67.
التنلاني، عبد الرحمن بن عمر، فهرسة التنلاني، دراسة وتحقيق ، عبد الرحمن بعثمان، مذكرة مقدمة لنيل درجة الماجستير، باشراف الدكتور محمد بن معمر، جامعة بشار، 2009، ص 87.
[1] ـ تنجورارين (قورارة): لفظ بربري زناتي معناه المعسكر.
[2] - تيدكلت: لفظ بربري معناه الصحن.
[3] - ابن بابا حيدا ، القول البسيط في أخبار تمنطيط ، تحقيق: فرج محمد فرج، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1977 ص11.
[4] - ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر، تحقيق: خليل شحادة، مراجعة سهيل زكار ، بيروت : دار الفكر2001، الجزء 01/76-77 .
[5] - العياشي أبو سالم ، الرحلة العياشية ، ماء الموائد ، فاس ، طبعة حجرية ، الجزء 1/20-21.
[6] - تحدث عنها ابن خلدون ، حيث وصف أسواقها في سياق حديثه عن حركة القوافل في الصحراء حيت أورد أن قبائل من تلمسان يسمون ذوي عبيد يمرون على تمنطيط في طريقهم إلى بلاد السودان ينظر: (ابن خلدون ، العبر، الجزء6/80. ).
[7] - ابن بابا حيدا، القول البسيط في أخبار تمنطيط, ص14.
[8] - نسبة إلى بني منيارة وهي قبيلة من العرب معروفة بأرض التلول ينظر :( ابن بابا حيدا، القول البسيط،ص30).
[9]- دفين أولاد علي بن موسى بتمنطيط، ينظر :( ابن بابا حيدا ، القول البسيط ،ص31).
[10] - بكري عبد الحميد ، النبذة في تاريخ توات وأعلامها ،دار الهدى ، الجزائر ،2005، ص76. وأيضا: ابن عبد الكريم، درة الأقلام، ورقة 19).
[11] - الحمدي ، أحمد ، محمد بن عبد الكريم المغيلي ،رائد الحركة الفكرية في توات ، عصره وآثاره، رسالة ماجستير ، المعهد الوطني للحضارة الاسلامية، وهران ،1999-2000م ، ص67.
[12] - تقع بني تامرت ضمن إقليم الآن بلدية تيمي ، وتبعد عن مدينة أدرار بـ 07كلم. .
[13] - ابن عبد الكريم، محمد التمنطيطي ، درة الأقلام في أخبار المغرب بعد الاسلام ، خزانة كوسام ـ أدرار ـ الجزائر ، ورقة 19.
[14] - ابن عبد الكريم ، درة الأقلام , ورقة 19.
[15] - حاج أحمد الصديق، التاريخ الثقافي لإقليم توات خلال القرنين (11 ـ 14هـ ـ17ـ20م)، طبعة مديرية الثقافة لولاية أدرار، 2003، ص50.
[16] - الشيخ سيدي أحمد بن يوسف الوانقالي ثم التنلاني مؤسس زاوية تنلان توفي 1078 هـ (ينظر: المهداوي،عمر بن عبد القادر، الدرة الفاخرة في ذكر المشايخ التواتية، خزانة مولاي سليمان بن علي، أدغاغ ،أدرار ـ الجزائر ، بدون ترقيم ، ورقة 01.
[17] - ولد سنة 1098 هـ رحل إلى المغرب الأقصى طالبا للعلم لـ 13 سنة أخذ فيها عن الشيخ محمد بن أحمد المسناوي و الشيخ الحسن بن رحال المعداني و الشيخ أحمد بن مبارك السجلماسي و الشيخ محمد بن عبد السلام بناني و الشيخ محمد بن زكري الفاسي و الشيخ محمد حفيد ميارة الفاسي و غيرهم، ما أهله للتدريس بجامع القرويين والمدرسة المصباحية بفاس، رجع إلى توات و تصدر للتدريس و ببلدته تنلان توفي عشية الإربعاء لثلاث ليل خـلون من ربيع الأول سنة 1152 هـ . أنظر ترجمته في: عبد الرحمن بن عمر التنلاني ، الفهرسة، ص ص 82، 91، 98. وأيضا :بن أب ضيف الله، الرحلة لزيارة قبر الوالد، مخطوط، بخزانة سيدي أحمد ديدي بتمنطيط، ورقة32 .
[18]- محمد باي بلعالم ، الرحلة العلية الى توات، دار هومة ، 2005 ، ج 01 ، ص 161 .
[19]- تِطاف أو تيطاف من قصور بلدية تامست حاليا ، يقع على مسافة 60 كم جنوب أدرار .
[20] - الجنتوري، عبد الرحمن بن إبراهيم، نوازل الجنتوري، جمع وترتيب محمد بن عبد العزيز المسعدي الجراري، خزانة بن عبد الكبير (المطارفة ، أدرار)، ورقة 01.
[21]- يُنظر ترجمته في المصادر التالية : عبد الرحمن بن عمر التنلاني ، فهرسة التنلاني ، ص 87 وما بعدها / عبد القادر بن عمر المهداوي ، الدرة الفاخرة في ذكر المشايخ التواتية ، مخطوط بخزانة الوليد بن الوليد ، قصر باعبد الله ، أدرار ، ص 18 / ضيف الله بن أبّ ، الرحلة إلى قبر الوالد ، مخطوط بالخزانة البكرية ، تمنطيط ، أدرار ، ص 67 ـ 81 / البكري بن عبد الكريم بن البكري ، إعلام الإخوان بأخبار بعض السادة الأعيان ، مخطوط بالخزانة البكرية ، تمنطيط ، أدرار ، ص 16 / عبد الرحمن الجنتوري ، نوازل الجنتوري، جمع وترتيب : محمد بن عبد العزيز المسعدي الجراري ، مخطوط بخزانة بن عبد الكبير ، المطارفة ، أدرار ، ص 01 .
[22] - نسبة إلى عين صالح من بلاد تيدكلت (تقع الآن ضمن الحدود الإدارية لولاية تمنراست ـ جنوب شرق الجزائر ) الجنتوري، نوازله، ورقة 01
[23] ـ الجنتوري، نوازله، ورقة01
[24] - نفسه، ورقة 01
[25]- التنلاني، عبد الرحمن بن عمر، فهرسة التنلاني، دراسة وتحقيق ، عبد الرحمن بعثمان، مذكرة مقدمة لنيل درجة الماجستير، باشراف الدكتور محمد بن معمر، جامعة بشار، 2009، ص 87.
[27] - التنلاني، فهرسته، ص126.
[28] - الجنتوري، نوازله،ورقة 02ـ 05
[29]- التنلاني ، المصدرفهرسته ، ص 125 .
[30]- التنلاني ، المصدر فهرسته ، ص 124 .
[31]- بن أبّ ، رحلته ، ص 67 .
[32]- الجنتوري، نوازله، ص 01 .
[33]- المصدر نفسه ، ص 01 .
[34]- بن أبّ ، رحلته، ص 67 .
[35]- التنلاني ، فهرسته ، ص 124 .
[36]- بن أبّ ، رحلته ، ص 67 .
[37]- التنلاني ، فهرسته ، ص 125 .
[38] - التنلاني فهرسته ، ص87.
[39] - ابن أب، رحلته ، ص 67.
[40] ـ ابن أب، رحلته ، ورقة 67.
[41] - فهرسة التنلاني، ص122.
[42] - فهرسة التنلاني، ص120.
[43] - الجنتوري، نوازله، ورقة 01
[44] - فهرسة التنلاني، ص123.
[45] - فهرسة التنلاني، ص123.
[46] ـ الجنتوري، نوازله ورقة 07.
[47]- فهرسة التنلاني، ص 124.
[48] - ابن أب، رحلته، ورقة 67.
Comments